تحت سقف سوريا الأخرى

من فيلم «تحت السقف» (2005).

 

"دعِ الحرفَ يصبحُ أصداءَ ملحٍ،

وكلَّ فمٍ ناطقٍ حجرا!

سأبحثُ عن أثرٍ للّذين  

أقاموا هنا،

بيننا،

وقضوا وطرا،

ومضوا دون أن يتركوا أثرا"[1].

 

ما الّذي يمكن أن يحدث للمدينة لو مات شاعرها؟ أو ما معنى أن يموت الشاعر في مدينة ميّتة؟ يبدو هذان السؤالان غير مفيدَين أمام رهان الأدب مع الخلود ومُلّاك التاريخ، وجهًا لوجه مع الزمان الطاغية. لكنّهما سؤالان يدفعان إلى تعريف الشاعر وإمكانات وجوده في المدينة، أو في الغرفة المضيئة الصغيرة الّتي تنام في المدينة المظلمة.

 

«تحت السقف» الممكن

في عام 2005، وبينما كان نجوم الدراما السوريّة يتحضّرون لإنتاج الجزء الخامس من مسلسل «بقعة ضوء» الكوميديّ الساخر، الّذي يتبنّى انتقاد الحياة اليوميّة وتفاصيلها في سوريا، بما يُرضي الجمهور وحرّاس الرأي العامّ، أنتجت المؤسّسة العامّة للسينما في سوريا، فيلمًا روائيًّا طويلًا بعنوان «تحت السقف»، للمخرج نضال الدبس، وبأسماء لافتة مثل رامي حنّا، وفارس الحلو، وسلافة معمار، وأمل عمران، وغيرهم؛ ليعرض خلال «مهرجان دمشق السينمائيّ» في ذلك الوقت.

تدور أحداث الفيلم في دمشق، في غرفة صغيرة رطبة، وتحت سقفها الّذي جمع مجموعة من الشباب الحالمين لسنوات عديدة، في مشهد لا ينفكّ يتكرّر في مدينة دمشق القديمة، وكأنّها الغرف ذاتها نتوارثها جيلًا فجيل. وبأسلوب خاصّ وأصيل، يبدأ نضال الدبس فيلمه الطويل من مشهد موت الشخصيّة المحرّكة لأحداثه. ومع طاقة أداء مسرحيّة عالية، يعلن الممثّلون المشاركون للمشاهد الخيط الدقيق الّذي سيحمل هذا الفيلم بين عالمَي الواقع والعبث. ولا يبدو هذا الموت موتًا فرديًّا، بل جماعيًّا بما يحمله من استعارات ظاهرة وخفيّة، فكما نشعر بثقل هذا الموت الّذي سيخيّم على شخصيّات الفيلم، كذلك سنرى تأثير غيابه في حيواتهم.

 

من فيلم «تحت السقف» (2005).

 

تتحدّث ميريام كوك في كتابها «سوريا الأخرى، صناعة الفنّ المعارض»[2] (2018) عن الأرض الوعرة، الّتي يتحرّك فيها الفنّان والمثقّف السوريّ متعاملًا مع مفهوم الجائز والمسموح به، لإنتاج عمل فنّيّ يفكّر في التغيير وبالتغيير. وقد قضت ميريام نحو 6 أشهر بين خريف 1995 وربيع 1996، وتعرّفت في تلك الفترة إلى أهمّ الأسماء الّتي تشكّل الوسط الثقافيّ والفنّيّ في سوريا. وفي تقديمها لمعنى الثقافة في سوريا، تجد كوك، أنّ السلطة قد أفرغت الثقافة من معناها التحرّريّ الفنّيّ والإبداعيّ، وأبقت على معناها التأديبيّ، التربويّ، الّذي يساعد على تمكين السلطة لا على زعزعتها. تساعدني هذه الإشارة السريعة هنا في الحديث عن موت الشاعر في الفيلم المنتَج في سوريا 2005، الّتي كانت تمرّ في ظروف استثنائيّة على الصعيدين الداخليّ والدوليّ.

يموت الشاعر، أحمد (فارس الحلو) دون سابق إنذار، تاركًا وراءه أرملة (سلافة معمار) تريد أن تتحرّر منه ومن غيره، وصديقًا (رامي حنّا) لا يستطيع قبول هذه الخسارة، وتاريخًا من النضال اليساريّ الثوريّ في سوريا ولبنان وبعض القصائد، الماغوطيّة ربّما. يموت في الغرفة ذاتها، الّتي سيأخذ الفيلم عنوانه عن سقفها، غرفة صديقه المصوّر، الّتي تقبع في حيّ مظلم وهامشيّ من أحياء دمشق، ضمن بيت عربيّ قديم، بثلاث غرف رطبة. يتشاركه المصوّر، مع خيّاط فلسطينيّ مسنّ يتحدّث عن قصصه مع البلاد والفدائيّين، وامرأة مطلّقة لها طفل صغير. في هذا البيت، إذن، تبدأ القصّة من السقف الّذي يدلف ماء طيلة السنة، السقف الّذي يزعج أحلام ساكني الغرفة.

يتحرّك الفيلم في مساحة أخرى، لا تشبه سوريا الأخرى الّتي تصنعها الدراما السوريّة في تلك الفترة، سوريا قاتمة غير ملوّنة، سوريا حقيقيّة ومخيفة، مع شخصيّات قلقة ومنهارة، تحاول أن تجد معنًى لوجودها في فوضى المدينة، الّتي مات شاعرها وضاعت هويّته - لم يستطيعوا أن يخرجوا شهادة وفاة له - وهو ما يدفعنا نحن المشاهدين إلى ربط هذا الفيلم بكتاب «سوريا الأخرى» والفنّ المعارض فيها، حيث يعني موت الشاعر موت الشارع أيضًا، أو ذلك ما يمكن استنباطه، مع السرد المتقطّع للفيلم الّذي يحاول أن يعكس الحقيقة/ الواقع، خاصّة إذا ما أخذنا بالحسبان عنوان الفيلم الّذي قد يشير إلى سقف الوطن، أو سقف الحرّيّات، وسقف التعبير عن كلّ ما سبق.

 

سقف بيتي حديد، العيش في الواقع

يقرّر المصوّر الّذي عانى غياب صديقه، وبعد تجاوز ذنب وفاة الشاعر، أن يتخلّى عن كلّ الكتب الّتي تملأ الغرفة، وأن يبدأ حياة جديدة، أقلّ توتّرًا وحدّيّة، حياة راضخة كمواطن عاديّ. وبينما يفرغ الغرفة من أشرطة الفيديو والكتب الكثيرة، تتردّد أصوات الأطفال في ساحة البيت المهترئ، وهي تحفظ جزءًا من قصيدة مدرسيّة يقولون فيها: "سقفُ بيتي حديد، ركنُ بيتي حجر، فاعصفي، يا رياح، وانسكب يا مطر". تتعالى الأصوات لتستولي على المشهد والمصوّر، فيجلس ذاهلًا أمام قوّة هذه الأبيات ليردّدها شيئًا فشيئًا معهم، ويخرج من المنزل.

يتحرّك الفيلم في مساحة أخرى، لا تشبه سوريا الأخرى الّتي تصنعها الدراما السوريّة في تلك الفترة، سوريا قاتمة غير ملوّنة، سوريا حقيقيّة ومخيفة، مع شخصيّات قلقة ومنهارة، تحاول أن تجد معنًى لوجودها في فوضى المدينة...

يحيلني هذا الخروج من المنزل، والقبول بالشعار المدرسيّ الممنهج، إلى المسرحيّ والرئيس التشيكيّ فاتسلاف هافيل، الّذي يتحدّث عن شعارات السلطات الاستبداديّة الّتي تصنع واقعًا موازيًا لمواطنيها، ليصدّقوه ويعيشوا فيه. وبحسب هافيل: "لم يكن على الأفراد أن يؤمنوا بهذه الشعارات الخادعة كلّها، بل كان عليهم أن يتصرّفوا كما لو أنّهم يؤمنون بها، أو في الأقلّ أن يتقبّلوها بصمت، أو يتعايشوا مع أولئك الّذين يعملون معهم. لذلك؛ كان عليهم أن يعيشوا الأكذوبة، فهم لا يحتاجون إلى قبولها، بل يكفي أن يستسيغوا حياتهم معها وفيها. ومن خلال هذه الحقيقة الواقعيّة بالتحديد، كان الأفراد يعزّزون النظام وينفّذونه ويصنعونه (...) ويصبحون هم النظام"[3].

لم يكن المصوّر هو الوحيد الّذي انهزم، بل لحقت به الشخصيّات الأخرى؛ فعلى الجانب الآخر، ستستسلم المرأة الأقوى في الفيلم (أرملة الشاعر)، وترضخ لقوانين المجتمع القاسي، إلى جانب 3 شخصيّات نسائيّة أخرى يمكننا أن نقرأ الفيلم من خلالها؛ فقد قدّم الدبس، من خلال هذه الشخصيّات النسائيّة الأربع، عددًا لا يستهان به من القضايا الّتي تنشغل بها حركة النسويّة العربيّة اليوم كما الأمس. وقد نجد في الّذي تقوله الأرملة تلخيصًا مكثّفًا لما يريد الدبس قوله من خلال نساء الفيلم: "كنت أحلم أمشي بحارتنا وأسمع صوت كندرتي. كنت مفكّرة مع أحمد رح عيش متل ما بدّي (...) أو على الأقلّ متل ما كان يوعدني (...) شو كنّا نسمّيها؟ الحرّيّة (...) أنا كنت مصدقة". وفي لحظة أخرى، تخبرنا الأرملة باستعارة مباشرة، عن هزيمة هذا الجيل حين تقول للمصوّر: "صوت مشيتك متل كأنّو واحد ماشي ومو عرفان وين رايح...".

 

أفلام للخارج فقط

تثير الأفلام السوريّة فيّ أسئلة كثيرة دائمًا، أستغرب إنتاجها، ولا أفهم آليّات الرقابة الّتي تسمح بها، وتمنع غيرها، وأرى أنّ «تحت السقف» واحدًا من هذه الأفلام الّتي تطرح الأسئلة الكبرى والصعبة، بحذر شديد، على الرغم من إنتاجه من قِبَل «المؤسّسة العامّة للسينما» في سوريا. وبينما نتحدّث دومًا عن دراما سوريّة متفوّقة، يراد لها ذلك، نتأفّف من واقع السينما السوريّة، ونتجاهله، أو نُدفع بشراسة نحو تجاهله. فكما كان فيلم «الليل» للمخرج السوريّ محمّد ملص، أوّل فيلم عربيّ يُختار في عام 1992 لـ «مهرجان نيويورك للأفلام السينمائيّة». وقد نوقش في الصحافتين العربيّة والأوروبّيّة، فإنّ موطنه لم يسمع به، ويعود ذلك إلى أنّه لم يُسمح بعرضه في سوريا، حسب ميريام كوك، عن نقاشها مع ملص نفسه[4].

تشير كوك إلى أنّ هذه الأفلام الّتي تقول الحقيقة أو تُلمح إليها، بتمويل من الدولة "تبقى في سوريا لتُعرض في مناسبات خاصّة، عندما يكون إظهار الحرّيّة والديمقراطيّة ضروريًّا. وعندما يرتفع مستوى التوتّر، يمكن لهذه الأفلام أن تُعرض لجمهور يائس من الحصول على مناسبة يشارك فيها الآخرين حسّه المعارض، ورقابته المستمرّة، واطمئنانه إلى وجود شخص يمتلك الشجاعة الكافية لإعلان المقاومة"[5].

هذه الأعمال الّتي لم تحصد النجاح الواجب، تعيش في رفوف خاصّة، في ذاكرة المواطن، وذاكرة الواقع الّذي يبحث المواطن عنه ليفهمه، وتساعدنا على قراءة المشهد بشكل مختلف...

وعلى الرغم من ذلك، ومن اليأس الّذي قد يصيبنا عن بُعد أجيال من هذه المحاولات الجادّة في التغيير، إلّا أنّ هذه الأعمال الّتي لم تحصد النجاح الواجب، تعيش في رفوف خاصّة، في ذاكرة المواطن، وذاكرة الواقع الّذي يبحث المواطن عنه ليفهمه، وتساعدنا على قراءة المشهد بشكل مختلف، أو كما يفكّر ممدوح عدوان في ذلك فيقول لميريام كوك: "لقد أضعنا كثيرًا من الوقت والجهد ونحن نحاول مواجهة الديكتاتوريّة بشكل مباشر، حيث كنّا نعتقد أنّ في وسع قصيدة أن تُسقط الدكتاتوريّة، وكنّا مفتونين بالفكرة الّتي تقول إنّ الفنّ سلاح، بالطبع هو كذلك، لكنّ الأمر لم يكن كذلك دائمًا؛ فلا تستطيع أيّة قصيدة أو مقطوعة موسيقيّة أن تُسقط الديكتاتور لكن (...) إنّها تستطيع أن تقاوم تطبيع القمع. إنّها تستطيع أن تركّز على البشر وإنسانيّتهم العميقة، وتذكّرهم دائمًا أنّهم بشر. يجب على الفنّانين أن يبتكروا أعمالًا تساعد الآخرين في فهم ما يجري، وسببه، والنتائج المحتملة"[6].

أخيرًا، لا يسع مشاهد هذا الفيلم أن يتجاهل جماليّاته، الّتي تبدأ في الإخراج المتميّز، ولا تنتهي بأداء ممثّليه وموسيقاه التصويريّة، موسيقى ديما أورشو، والسرد المختلف القادر على استحضار المدينة من خلال شخصيّاتها، واستنباط مصائرهم من خلال ماضيها وأساطيرها.

 


إحالات

[1] فوزي كريم، الأعمال الشعريّة، ج١، (دمشق: دار المدى للثقافة والنشر، 2001)، 187.

[2] ميريام كوك، سوريا الأخرى، صناعة الفنّ المعارض، ترجمة حازم نهار، (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2018).

[3] مرجع سابق، ص 47.

[4] مرجع سابق، ص 163.

[5] مرجع سابق، ص 179.

[6] مرجع سابق، ص 140-141.

 


 

موفّق الحجّار

 

 

 

شاعر وكاتب سوريّ، حاصل على ماجستير في الأدب المقارن من «معهد الدوحة للدراسات العليا».